الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: من شفع وأوتر بعد أن صلى العشاء فقد دخل في هذه الآية.وفي هذه الآية حض على قيام الليل في الصلاة.وقدم السجود وإن كان متأخرًا في الفعل لأجل الفواصل، ولفضل السجود فإنها حالة أقرب ما يكون العبد فيها من الله.وقرأ أبو البرهثيم: سجودًا على وزن قعودًا.ومدحهم تعالى بدعائه أن يصرف عنهم عذاب جهنم وفيه تحقيق إيمانهم بالبعث والجزاء.قال ابن عباس: {غرامًا} فظيعًا وجيعًا.وقال الخدري: لازمًا ملحًّا دائمًا.قال الحسن: كل غريم يفارق غريمه إلاّ غريم جهنّم.وقال السدّي: شديدًا.وأنشدوا على أن {غرامًا} لازمًا قوله الشاعر وهو بشر بن أبي حاتم:
وقال الأعشى: وصفهم بإحياء الليل ساجدين ثم عقبه بذكر دعائهم هذا إيذانًا بأنهم مع اجتهادهم خائفون يبتهلون إلى الله في صرف العذاب عنهم.و{ساءت} احتمل أن يكون بمعنى بئست.والمخصوص بالذم محذوف وفي {ساءت} ضمير مبهم ويتعين أن يكون {مستقرًا ومقامًا} تمييز.والتقدير {ساءت مستقرًا ومقامًا} هي وهذا المخصوص بالذم هو رابط الجملة الواقعة خبرًا لأن.ويجوز أن يكون {ساءت} بمعن أحزنت فيكون المفعول محذوفًا أي ساءتهم.والفاعل ضمير جهنم وجاز في {مستقرًا ومقامًا} أن يكونا تمييزين وأن يكونا حالين قد عطف أحدهما على الآخر.والظاهر أن التعليلين غير مترادفين ذكر أولًا لزوم عذابها، وثانيًا مساءة مكانها وهما متغايران وإن كان يلزم من لزوم العذاب في مكان دم ذلك المكان.وقيل: هما مترادفان، والظاهر أنه من كلام الداعين وحكاية لقولهم.وقيل: هو من كلام الله، ويظهر أن قوله: {ومقامًا} معطوف على سبيل التوكيد لأن الاستقرار والإقامة كأنهما مترادفان.وقيل: المستقر للعصاة من أهل الإيمان فإنهم يستقرون فيها ولا يقيمون، والإقامة للكفار.وقرأت فرقة {ومَقامًا} بفتح الميم أي مكان قيام، والجمهور بالضم أي مكان إقامة.{لم يسرفوا} ولم يقتروا.قال أبو عبد الرحمن الجيلي: الإنفاق في غير طاعة إسراف، والإمساك عن طاعة إقتار.وقال معناه ابن عباس ومجاهد وابن زيد.وسمع رجل رجلًا يقول: لا خير في الإسراف فقال: لا إسراف في الخير.وقال عون بن عبد الله بن عتبة: الإسراف أن تنفق مال غيرك.وقال النخعي: هو الذي لا يجيع ولا يُعَرِّي ولا ينفق نفقة يقول: الناس قد أسرف.وقال يزيد بن أبي حبيب: هم الذين لا يلبسون الثياب للجمال ولا يأكلون طعامًا للّذة وقال عبد الملك بن مروان لعمر بن عبد العزيز حين زوجه ابنته فاطمة: ما نفقتك؟ قال له عمر: الحسنة بين السيئتين.ثم تلا الآية.والإسراف مجاوزة الحد في النفقة والقتر التضييق الذي هو نقيض الإسراف.وعن أنس في سنن ابن ماجة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من السرف أن تأكل ما اشتهيته» وقال الشاعر: وقال آخر: وقال حاتم: وقرأ الحسن وطلحة والأعمش وحمزة والكسائي وعاصم: يقترون بفتح الياء وضم التاء ومجاهد وابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء وكسر التاء ونافع، وابن عامر بضم الياء وكسر التاء مشددة وكلها لغات في التضييق.وأنكر أبو حاتم لغة أقتر رباعيًا هنا.وقال أقتر إذا افتقر.ومنه {وعلى المقتر قدره} وغاب عنه ما حكاه الأصمعي وغيره: من اقتر بمعنى ضيق، والقوام الاعتدال بين الحالتين.وقرأ حسان بن عبد الرحمن {قوامًا} بالكسر.فقيل: هما لغتان بمعنى واحد.وقيل: بالكسر ما يقام به الشيء يقال: أنت قوامنا بمعنى ما تقام به الحاجة لا يفضل عنها ولا ينقص.وقيل: {قوامًا} بالكسر مبلغًا وسدادًا وملاك حال، و{وبين ذلك} و{قوامًا} يصح أن يكونا خبرين عند من يجيز تعداد خبر {كان} وأن يكون {بين} هو الخبر و{قوامًا} حال مؤكدة، وأن يكون {قوامًا} خبرًا و{بين ذلك} إما معمول لكان على مذهب من يرى أن كان الناقصة تعمل في الظرف، وأن يكون حالًا من {قوامًا} لأنه لو تأخر لكان صفة، وأجاز الفراء أن يكون {بين ذلك} اسم {كان} وبُني لإضافته إلى مبني كقوله: {ومن خزي يومئذ} في قراءة من فتح الميم و{قوامًا} الخبر.قال الزمخشري: وهو من جهة الإعراب لا بأس به، ولكن المعنى ليس بقوي لأن ما بين الإسراف والتقتير قوام لا محالة فليس في الخبر الذي هو معتمد الفائدة فائدة. انتهى.وصفهم تعالى بالقصد الذي هو بين الغلو والتقصير، وبمثله خوطب الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: {ولا تجعل يدك مغلولة} الآية. اهـ. .قال الثعالبي: وقوله: {الذين يَمْشُونَ}.خبر مبتدإ، والمعنى: وعباده حَقُّ عباده هم الذين يمشون.وقوله: {يَمْشُونَ عَلَى الأرض} عبارة عن عيشهم ومُدَّةِ حياتهم وَتَصَرُّفَاتِهم، و{هَونًا} بمعنى أَنَّ أمرهم كله هَيِّنُ، أي: ليِّنٌ حسن؛ قال مجاهد: بالحلم والوقار.قال ابن عباس بالطاعة والعَفَاف والتواضع، وقال الحسن: حُلَمَاءُ، إنْ جُهلَ عليهم لم يجهلوا.قال الثعلبيُّ: قال الحسن: يمشون حلماء علماء مثلَ الأنبياء، لا يؤذون الذَّرَّ في سكونٍ وتواضع وخشوع، وهو ضدُّ المُخْتَالُ الفخور الذي يختال في مشيه،. اهـ.قال عياض في صفة نَبِيِّنا محمد صلى الله عليه وسلم: يخطو تكفُّؤًا، ويمشي هونًا، كأنَّما ينحطُّ من صبب، انتهى من الشفا.قال أبو حيان: {هَونًا} نعت لمصدر محذوف، أي: مشيًا هونًا، أول حال، أي: هَيِّنِينَ، انتهى، وروى الترمذيُّ عن ابن مسعود أَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِمَنْ يَحْرُمُ عَلَى النَّارِ أَوْ بِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِ النَّارُ؟ على كُلِّ قَرِيبٍ، هَيِّنٍ، سَهْلٍ»، قال أَبو عيسى: هذا حديث حسن. انتهى.{وَإِذا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُوا سلاما} العامل في {سلامًا} {قالوا}، والمعنى: قالوا هذا اللفظ، وقال مجاهد: معنى {سلامًا} قولًا سدادًا، أي: يقول للجاهل كلامًا يدفعه به برفقٍ ولينٍ، وهذه الآية كانت قبل آية السيف فَنُسِخَ منها ما يَخُصُّ الكَفَرَةَ، وَبَقِيَ أَدبها في المسلمين إلى يوم القيامة، قال صاحب الحكم الفارقية: إذا نازعك إنسان فلا تجبه؛ فإنَّ الكلمة الأولى أُنْثَى واجباتُها فحلها، فإنْ أمسكت عنها بترتها وقطعت نسلها، وإنْ أجبتها ألقحتها، فكم من نسل مذمومٍ يتولد بينهما في ساعة واحدة. انتهى.{والذين يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وقياما} هذه آية فيها تحريض على قيام الليل بالصلاة، قال الحسن: لما فرغ من وصف نهارهم، وَصَفَ في هذه ليلهم، و{غَرَامًا} معناه: ملازمًا ثقيلًا، و{مُقَامًا} من الإقامة، وعن أنس بن مالك قال: قال رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم، «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الجنة ثَلاَثَ مَرَّاتٍ، قَالتِ الجَنَّةُ: اللَّهُمَّ، أَدْخِلْهُ الجَنَّةَ، وَمَن استجار مِنَ النَّارِ ثَلاَث مَرَّاتٍ، قَالتِ النَّارُ: اللَّهُمْ أَجْرِهُ مِنَ النَّار» رواه أبو داود، والنسائي وابن ماجه، وابن حِبَّانَ في صحيحه بلفظ واحد، ورواه الحاكم في المستدرك، وقال: صحيح الإسناد، انتهى من السلاح.وقوله سبحانه: {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} الآية: عبارة أكثر المفسرين أَنَّ الذي لا يُسْرِفُ هو المُنْفِقُ في الطاعة وإنْ أفرط، والمُسْرِفَ هو المُنْفِقُ في المعصية وإنْ قَلَّ إنفاقهُ، وإنَّ الْمُقتِرَ هو الذي يمنع حَقًّا عليه؛ وهذا قول ابن عباس وغيره، والوجه أَنْ يقال: إنَّ النفقة في المعصية أمر قد حَظَرَتِ الشريعةُ قليلَه وكثيره، وهؤلاءِ الموصوفون مُنَزَّهُونَ عن ذلك، وإنَّما التأديب بهذه الآية هو في نفقة الطاعات والمُبَاحَاتِ، فأدب الشريعة فيها إلاَّ يفرط الإنسانِ حتى يُضَيِّعَ حَقًّا آخر أو عيالًا ونحوَ هذا، أَلاَّ يُضَيِّقَ أَيضًا ويقتر حتى يجيع العيالَ ويفرط في الشُّحِّ، والحَسَنُ في ذلك هو القوام، أي: المعتدل، والقوام في كل واحد بحسب عياله وحاله، وخير الأمور أوساطها؛ ولهذا ترك النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أبا بكْرٍ الصِّدِّيقَ يَتَصَدَّقُ بِجَمِيعِ مَالِهِ؛ لأَنَّ ذلك وَسَطٌ بنسبة جَلَدِهِ وَصَبْرِهِ في الدِّينِ، ومنع غيره من ذلك.وقال عبد الملك بن مروان لعمرَ بن عبد العزيز حين زَوَّجَه ابنته فاطمة: مَا نَفَقَتُكَ؟ فقال له عمر: الحَسَنَةُ بَيْنَ السَّيِّئَتَيْنِ، ثم تلا الآية، وقال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه كفى بالمرء سَرَفًا أَلاَّ يشتهيَ شيئًا إلاَّ اشتراه فَأَكَلَهُ. و{قَوَامًا} خبر {كَانَ} واسمها مُقَدَّرٌ، أي: الإنفاق. اهـ..قال أبو السعود: {وَعِبَادُ الرحمن} كلامٌ مستأنف مسوقٌ لبيانِ أوصافِ خلَّصِ عبادِ الرَّحمنِ وأحوالِهم الدَّنيويةِ والأخُروَّيةِ بعد بيان حال النَّافرين عن عبادتِه والسُّجودِ له. والإضافةُ للتَّشريفِ وهو مبتدأٌ خبرُه ما بعدَهُ من الموصولِ وما عُطف عليه، وقيلَ: هو ما في آخرِ السُّورةِ الكريمةِ من الجُملةِ المصدَّرةِ باسمِ الإشارةِ. وقرئ عبادُ الرَّحمنِ أي عبادُه المقبُولونَ {الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْنًا} أي بسكينةٍ وتواضعٍ. وهَوْنًا مصدرٌ وُصف به. ونصبُه إمَّا على أنَّه حال من فاعلِ يمشُون أو على أنَّه نعتٌ لمصدرِه أي يمشُون هيِّنين ليِّنيِ الجانبِ من غيرِ فظاظةٍ أو مشيًا هيِّنا. وقولُه تعالى: {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون} أي السُّفهاءُ كما في قولِ من قال:{قَالُواْ سَلاَمًا} بيانٌ لحالِهم في المُعاملة مع غيرِهم إثرَ بيانِ حالِهم في أنفسِهم أي إذا خاطبُوهم بالسُّوءِ قالوا تسليمًا منكمُ ومتاركةً لا خيرَ بيننا وبينَكمُ ولا شرَّ. وقيل: سَدادًا من القولِ يسلمُون به من الأذيَّةِ والإثمِ، وليسَ فيه تعرُّضٌ لمعاملتِهم مع الكَفَرةِ حتَّى يُقالَ نسختها آيةُ القتالِ كما نُقل عن أبي العاليةِ.وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبّهِمْ سُجَّدًا وقياما} بيانٌ لحالِهم في معاملتِهم مع ربِّهم أي يكونون ساجدين لربِّهم وقائمين أي يُحيون اللَّيلَ كُلًا أو بعضًا بالصَّلاةِ. وقيل: من قرأ شيئًا من القُرآنِ في صلاةٍ وإنْ قلَّ فقد باتَ ساجدًا وقائمًا. وقيل هُما الرَّكعتانِ بعد المغربِ والرَّكعتانِ بعد العشاءِ. وتقديمُ السُّجودِ على القيامِ لرعايةِ الفواصلِ.{والذين يَقُولُونَ} أي في أعقابِ صلواتِهم أو في عامَّةِ أوقاتِهم {رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا} أي شرًا دائمًا وهلاكًا لازمًا وفيه مزيدُ مدحٍ لهم ببيان أنَّهم مع حُسن معاملتِهم مع الخلقِ واجتهادِهم في عبادةِ الحقِّ يخافُون العذابَ ويبتهلون إلى الله تعالى في صرفِه عنهم غيرَ محتفلين بأعمالِهم كقوله تعالى: {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون}.{إِنَّهَا سَاءتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا} تعليلٌ لاستدعائِهم المذكورِ بسوءِ حالِها في نفسها إثرَ تعليلهِ بسوء حالِ عذابِها، وقد جُوِّز أن يكون تعليلًا للأُولى وليس بذاك. وساءتْ في حكم بئستُ وفيها ضميرٌ مبهمٌ يفسِّره مستقرًَّا. والمخصوصُ بالذمِّ محذوفٌ معناه ساءتْ مستقرًَّا ومقامًا هَي وهذا الضَّميرُ هو الذي ربطَ الجملة باسمِ إنَّ وجعلَها خبرًا لها. قيلَ: ويجوزُ أنْ يكونَ ساءتْ بمعنى أحزنتْ وفيها ضميرُ اسم إنَّ. ومستقرًَّا حالٌ أو تمييزٌ وهو بعيدٌ خالٍ عَّما في الأولِ من المبالغةِ في بيانِ سوءِ حالِها وكذا جعل التعليلينِ من جهتِه تعالى.{والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ} لم يجاوزُوا حدَّ الكرمِ {وَلَمْ يَقْتُرُواْ} ولم يضيِّقُوا تضييقَ الشَّحيحِ وقيل: الإسرافُ هو الانفاقُ في المعاصِي والقترُ منعُ الواجباتِ والقُربِ. وقرئ بكسرِ التَّاءِ مع فتحِ الياءِ وبكسرِها مخفَّفةً ومشدَّدةً مع ضمِّ الياءِ {وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ} أي بين ما ذُكر من الإسرافِ والقَترِ {قَوَامًا} وسطًا وعدلًا سُمِّي به لاستقامةِ الطَّرفينِ كما سُمِّيَ به سواءً لاستوائِهما وقرئ بالكسرِ وهو ما يُقام به الحاجةُ لا يفضلُ عنها ولا ينقصُ وهو خبرٌ ثانٍ أو حالٌ مؤكِّدة أو هو الخبرُ وبين ذلك لغوٌ وقد جُوِّز أنْ يكونَ اسمَ كانَ على أنَّه مبنيٌّ لأضافتِه إلى غيرِ متمكِّن ولا يَخْفى ضعفُه فإنَّه بمعنى القوام فيكون كالإخبارِ بشيءِ عن نفسِه. اهـ.
|